الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ بِضَمِّ "الظَّاءِ". وَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ: (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ)، بِفَتْحِ "الظَّاءِ". ثُمَّ اخْتَلَفَ الَّذِينَ قَرَءُوا ذَلِكَ بِضَمِّ "الظَّاءِ" فِي تَأْوِيلِهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- أَنْ يَجْهَرَ أَحَدُنَا بِالدُّعَاءِ عَلَى أَحَدٍ، وَذَلِكَ عِنْدَهُمْ هُوَ "الْجَهْرُ بِالسُّوءِحُكْمُهُ إِلَّا مِنْ ظُلِمَ"، يَقُولُ: إِلَّا مِنْ ظُلِمَ فَيَدْعُوَ عَلَى ظَالِمِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَا يَكَرَهُ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ قَدْ رَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} "، يَقُولُ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا، فَإِنَّهُ قَدْ أَرْخَصَ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: "إِلَّا مَنْ ظُلِمَ"، وَإِنْ صَبَرَ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} "، فَإِنَّهُ يُحِبُّ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} "، عَذَرَ اللَّهُ الْمَظْلُومَ كَمَا تَسْمَعُونَ: أَنْ يَدْعُوَ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يَظْلِمُ الرَّجُلَ فَلَا يَدْعُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ اسْتَخْرِجْ لِي حَقِّي، اللَّهُمَّ حُلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُرِيدُ"، وَنَحْوَهُ مِنَ الدُّعَاءِ. فَ"مَنْ"، عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا، فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. لِأَنَّهُ وَجَّهَهُ إِلَى أَنَّ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ، وَاسْتَثْنَى الْمَظْلُومَ مِنْهُ. فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ يُجْهِرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ، إِلَّا الْمَظْلُومَ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي الْجَهْرِ بِهِ. وَهَذَا مَذْهَبٌ يَرَاهُ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ خَطَأً فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَذَلِكَ أَنَّ"مَنْ" لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَفْعًا عِنْدَهُمْ بِ "الْجَهْرِ"، لِأَنَّهَا فِي صِلَةِ "أَنْ" وَلَمْ يَنَلْهُ الْجَحْدُ، فَلَا يَجُوزُ الْعَطْفُ عَلَيْهِ. مِنْ خَطَأٍ عِنْدَهُمْ أَنْ يُقَالَ: "لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَقُومَ إِلَّا زَيْدٌ". وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ"مَنْ" نَصْبًا، عَلَى تَأْوِيلِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: " {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} "، كَلَامًا تَامًّا، ثُمَّ قِيلَ: "إِلَّا مِنْ ظُلِمَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ"، فَيَكُونُ "مَنْ" اسْتِثْنَاءً مِنَ الْفِعْلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ شَيْءٌ ظَاهِرٌ يُسْتَثْنَى مِنْهُ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ}، [سُورَةُُ الْغَاشِيَةِ: 23]، وَكَقَوْلِهِمْ: "إِنِّي لِأَكْرَهُ الْخُصُومَةَ وَالْمِرَاءَ، اللَّهُمَّ إِلَّا رَجُلًا يُرِيدُ اللَّهَ بِذَلِكَ"، وَلَمْ يُذْكَرْ قَبْلَهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَسْمَاءِ. وَ"مَنْ"، عَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ هَذَا، نَصْبٌ، عَلَى أَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ، لَا مِنَ الِاسْمِ، كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، إِذَا وُجِّهَ"مَنْ"، إِلَى النَّصْبِ، وَكَقَوْلِ الْقَائِلِ: "كَانَ مِنَ الْأَمْرِ كَذَا وَكَذَا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنَّ فُلَانًا جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا فَعَلَ كَذَا وَكَذَا". وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ، إِلَّا مِنْ ظُلِمَ فَيُخْبِرُ بِمَا نِيلَ مِنْهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يَنْزِلُ بِالرَّجُلِ فَلَا يُحْسِنُ ضِيَافَتَهُ، فَيَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهِ فَيَقُولُ: أَسَاءَ ضِيَافَتِي وَلَمْ يُحْسِنْ! حَدَّثَنَا الْقَاسِمُُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} "، قَالَ: إِلَّا مِنْ أَثَرِ مَا قِيلَ لَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} "، قَالَ: هُوَ الضَّيْفُ الْمُحَوِّلُ رَحْلَهُ، فَإِنَّهُ يَجْهَرُ لِصَاحِبِهِ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِذَلِكَ، الرَّجُلَ يَنِْزِلُ بِالرَّجُلِ فَلَا يَقْرِيهِ، فَيَنَالُ مِنَ الَّذِي لَمَّ يَقْرِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: " {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} "، قَالَ: إِلَّا مِنْ ظُلِمَ فَانْتَصَرَ، يَجْهَرُ بِالسُّوءِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} "، قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يَنْزِلُ بِالرَّجُلِ فَلَا يُحْسِنُ إِلَيْهِ، فَقَدْ رَخَّصَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَقُولَ فِيهِ. وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَمَّادٍ الدُّولَابِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، " {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} "، قَالَ: هُوَ فِي الضِّيَافَةِ، يَأْتِي الرَّجُلُ الْقَوْمَ، فَيَنْزِلُ عَلَيْهِمْ، فَلَا يُضِيفُونَهُ. رَخَّصَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَقُولَ فِيهِمْ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: " {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} " الْآيَةَ، قَالَ: ضَافَ رَجُلٌ رَجُلًا فَلَمْ يُؤَدِّ إِلَيْهِ حَقَّ ضِيَافَتِهِ، فَلَمَّا خَرَجَ أَخْبَرَ النَّاسَ، فَقَالَ: "ضِفْتُ فُلَانًا فَلَمْ يُؤَدِّ حَقّ ضِيَافَتِي"! فَذَلِكَ جَهْرٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مِنْ ظُلْمَ، حِينَ لَمْ يُؤَدِّ إِلَيْهِ ضِيَافَتَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ: إِلَّا مَنْ ظُلْمَ فَانْتَصَرَ، يَجْهَرُ بِسُوءٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ ضَافَ رَجُلًا بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ فَلَمْ يُضِفْهُ، فَنَزَلَتْ: "إِلَّا مَنْ ظُلْمَ"، ذُكِرَ أَنَّهُ لَمْ يُضِفْهُ، لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: إِلَّا مَنْ ظُلْمَ فَانْتَصَرَ مِنْ ظَالِمِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} "، يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ، وَلَكِنْ مَنْ ظُلْمَ فَانْتَصَرَ بِمِثْلِ مَا ظُلِمَ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ جَنَاحٌ. فَ"مَنْ"، عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، سِوَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى انْقِطَاعِهِ مِنَ الْأَوَّلِ. وَالْعَرَبُ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَنْصِبَ مَا بَعْدَ"إِلَّا" فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ. فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ، سِوَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ، وَلَكِنْ مَنْ ظُلْمَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ أَنْ يُخْبِرَ بِمَا نِيلَ مِنْهُ، أَوْ يَنْتَصِرَ مِمَّنْ ظَلَمَهُ. وَقَرَأَ ذَلِكَ آخَرُونَ بِفَتْحِ "الظَّاءِ": (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ)، وَتَأَوَّلُوهُ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُجْهِرَ لَهُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ أَبِي يَقْرَأُ: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ)، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَقُولُ: إِلَّا مَنْ أَقَامَ عَلَى ذَلِكَ النِّفَاقِ، فَيُجْهِرُ لَهُ بِالسُّوءِ حَتَّى يَنْزِعَ. قَالَ: وَهَذِهِ مِثْلُ: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ}، أَنْ تُسَمِّيَهُ بِالْفِسْقِ (بَعْدَ الْإِيمَانِ)، بَعْدَ إِذْ كَانَ مُؤْمِنًا (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ)، مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ الَّذِي قِيلَ لَهُ (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، [سُورَةُ الْحُجُرَاتِ: 11]، قَالَ: هُوَ شَرٌّ مِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ. حَدَّثَنِي يُونُسُُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ} "، فَقَرَأَ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} حَتَّى بَلَغَ {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ مَا قَالَ: هُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا}، {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ}، قَالَ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ لِهَذَا: "أَلَسْتَ نَافَقْتَ؟ أَلَسْتَ الْمُنَافِقُ الَّذِي ظَلَمْتَ وَفَعَلْتَ وَفَعَلْتَ؟ "، مِنْ بَعْدِ مَا تَابَ"إِلَّا مَنْ ظَلَمَ"، إِلَّا مَنْ أَقَامَ عَلَى النِّفَاقِ. قَالَ: وَكَأَنَ أَبِي يَقُولُ ذَلِكَ لَهُ، وَيَقْرَأَهَا: (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ). فَ"مَنْ" عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ نَصْبٌ لِتَعَلُّقِهِ بِ "الْجَهْرِ". وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ، عَلَى قَوْلِ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ يَجْهَرَ أَحَدٌ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ مِنْهُمْ فَأَقَامَ عَلَى نِفَاقِهِ، فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْجَهْرِ لَهُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} بِضَمِّ "الظَّاءِ"، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقَرَأَةِ وَأَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى صِحَّتِهَا، وَشُذُوذِ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ بِالْفَتْحِ. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ، فَالصَّوَابُ فِي تَأْوِيلٍ ذَلِكَ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ، أَيُّهَا النَّاسُ، أَنْ يَجْهَرَ أَحَدٌ لِأَحَدٍ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ"إِلَّا مَنْ ظُلِمَ"، بِمَعْنَى: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ أَنْ يُخْبِرَ بِمَا أُسِيءُ عَلَيْهِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ، دَخَلَ فِيهِ إِخْبَارُ مَنْ لَمْ يُقْرَ، أَوْ أُسِيءَ قِرَاهُ، أَوْ نِيلَ بِظُلْمٍ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ غَيْرَهُ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ. وَكَذَلِكَ دُعَاؤُهُ عَلَى مَنْ نَالَهُ بِظُلْمٍ أَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ فِي دُعَائِهِ عَلَيْهِ إِعْلَامًا مِنْهُ لِمَنْ سَمِعَ دُعَاءَهُ عَلَيْهِ بِالسُّوءِ لَهُ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَ"مَنْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ، وَأَنَّهُ لَا أَسْمَاءَ قَبْلَهُ يُسْتَثْنَى مِنْهَا، فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} [سُورَةُ الْغَاشِيَةِ: 23]. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا"، فَإِنَّهُ يَعْنِي: "وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا"، لِمَا تَجْهَرُونَ بِهِ مِنْ سُوءِ الْقَوْلِ لِمَنْ تَجْهَرُونَ لَهُ بِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَصْوَاتِكُمْ وَكَلَامِكُمْ "عَلِيمًا"، بِمَا تُخْفُونَ مِنْ سُوءِ قَوْلِكُمْ وَكَلَامِكُمْ لِمَنْ تُخْفُونَ لَهُ بِهِ فَلَا تَجْهَرُونَ لَهُ بِهِ، مَحَّصٍ كُلَّ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ، حَتَّى يُجَازِيَكُمْ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ جَزَاءَكُمْ، الْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ، وَالْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ "إِنْ تَبْدُوَا" أَيُّهَا النَّاسُ" خَيْرًا "، يَقُولُ: إِنْ تَقُولُوا جَمِيلًا مِنَ الْقَوْلِ لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكُمْ، فَتُظْهِرُوا ذَلِكَ شُكْرًا مِنْكُمْ لَهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ مَنْ حُسْنِ إِلَيْكُمْ، "أَوْ تُخْفُوهُ"، يَقُولُ: أَوْ تَتْرُكُوا إِظْهَارَ ذَلِكَ فُلًّا تُبْدُوهُ "أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ"، يَقُولُ: أَوْ تَصْفَحُوا لِمَنْ أَسَاءَ إِلَيْكُمْ عَنْ إِسَاءَتِهِ، فَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي قَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ أَنْ تَجْهَرُوا لَهُ بِهِ"فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا"، يَقُولُ: لَمْ يَزَلْ ذَا عَفْوٍ عَنْ خَلْقِهِ، يَصْفَحُ عَمَّنْ عَصَاهُ وَخَالَفَ أَمْرَهُ "قَدِيرًا"، يَقُولُ: ذَا قُدْرَةٍ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ. وَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ ذَا عَفْوٍ عَنْ عِبَادِهِ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى عِقَابِهِمْ عَلَى مَعْصِيَتِهِمْ إِيَّاهُ. يَقُولُ: فَاعْفُوَا، أَنْتُمْ أَيْضًا، أَيُّهَا النَّاسُ، عَمَّنْ أَتَى إِلَيْكُمْ ظُلْمًا، وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ، وَإِنْ قَدَرْتُمْ عَلَى الْإِسَاءَةِ إِلَيْهِ، كَمَا يَعْفُو عَنْكُمْ رَبُّكُمْ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى عِقَابِكُمْ، وَأَنْتُمْ تَعْصُونَهُ وَتُخَالِفُونَ أَمْرَهُ. وَفِي قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: " {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} "، الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى أَنَّ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: " {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} "، بِخِلَافِ التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأَوَّلَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، فِي زَعْمِهِ أَنَّ مَعْنَاهُ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ لِأَهْلِ النِّفَاقِ، إِلَّا مَنْ أَقَامَ عَلَى نِفَاقِهِ، فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْجَهْرِ لَهُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ عُقَيْبَ ذَلِكَ: "إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ"، وَمَعْقُولٌ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يَأْمُرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعَفْوِ عَنِ الْمُنَافِقِينَ عَلَى نِفَاقِهِمْ، وَلَا نَهَاهُمْ أَنْ يُسَمُّوا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُعْلِنَ النِّفَاقِ"مُنَافِقًا". بَلِ الْعَفْوُ عَنْ ذَلِكَ، مِمَّا لَا وَجْهَ لَهُ مَعْقُولٌ. لِأَنَّ "العَفْوَ" الْمَفْهُومَ، إِنَّمَا هُوَ صَفْحُ الْمَرْءِ عَمَّا لَهُ قِبَلَ غَيْرِهِ مِنْ حَقٍّ. وَتَسْمِيَةُ الْمُنَافِقِ بِاسْمِهِ لَيْسَ بِحَقٍّ لِأَحَدٍ قِبَلَهُ، فَيُؤْمَرُ بِعَفْوِهِ عَنْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْمٌ لَهُ. وَغَيْرُ مَفْهُومٍ الْأَمْرُ بِالْعَفْوِ عَنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ اسْمُهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى "وَيُرِيدُونَ أَنْ يَفْرُقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ"، بِأَنْ يُكَذِّبُوا رُسُلَ اللَّهِ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ إِلَى خَلْقِهِ بِوَحْيِهِ، وَيَزْعُمُوا أَنَّهُمُ افْتَرَوْا عَلَى رَبِّهِمْ. وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى إِرَادَتِهُمُ التَّفْرِيقَ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، بِنِحْلَتِهِمْ إِيَّاهُمُ الْكَذِبَ وَالْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ، وَادِّعَائِهِمْ عَلَيْهِمُ الْأَبَاطِيلَ"وَيَقُولُونَ نُؤَمِّنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ"، يَعْنِي أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: "نُصَدِّقُ بِهَذَا وَنُكَذِّبُ بِهَذَا"، كَمَا فَعَلَتِ الْيَهُودُ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ عِيسَى وَمُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ، وَتَصْدِيقُهُمْ بِمُوسَى وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ بِزَعْمِهِمْ. وَكَمَا فَعَلَتِ النَّصَارَى مِنْ تَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَصْدِيقِهِمْ بِعِيسَى وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ بِزَعْمِهِمْ" {وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} "، يَقُولُ: وَيُرِيدُ الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، الزَّاعِمُونَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِبَعْضٍ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ أَضْعَافِ قَوْلِهِمْ: "نُؤْمِنُ بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ""سَبِيلًا"، يَعْنِي: طَرِيقًا إِلَى الضَّلَالَةِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا، وَالْبِدْعَةِ الَّتِي ابْتَدَعُوهَا، يَدْعُونَ أَهْلَ الْجَهْلِ مِنَ النَّاسِ إِلَيْهِ. فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِعِبَادِهِ، مُنَبِّهًا لَهُمْ عَلَى ضَلَالَتِهِمْ وَكُفْرِهِمْ: "أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا"، يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفَتُ لَكُمْ صِفَتَهُمْ، هُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ بِي، الْمُسْتَحِقُّونَ عَذَابِي وَالْخُلُودَ فِي نَارِي حَقًّا. فَاسْتَيْقِنُوا ذَلِكَ، وَلَا يُشَكِّكُنَّكُمْ فِي أَمْرِهِمِ انْتِحَالُهُمُ الْكَذِبَ، وَدَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِمَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ بِهِ مُقِرُّونَ مِنَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ، فَإِنَّهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ مَا ادَّعَوْا مِنْ ذَلِكَ كَذَبَةٌ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ، هُوَ الْمُصَدِّقُ بِجَمِيعِ مَا فِي الْكِتَابِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ بِهِ مُصَدِّقٌ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ بِهِ مُؤْمِنٌ. فَأَمَّا مَنْ صَدَّقَ بِبَعْضِ ذَلِكَ وَكَذَّبَ بِبَعْضٍ، فَهُوَ لِنُبُوَّةِ مَنْ كَذَّبَ بِبَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ جَاحِدٌ، وَمِنْ جَحَدَ نُبُوَّةَ نَبِيٍّ حُكْمُهُ فَهُوَ بِهِ مُكَذِّبٌ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَحَدُوا نُبُوَّةَ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ مُصَدِّقُونَ بِبَعْضٍ، مُكَذِّبُونَ مَنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ، لِتَكْذِيبِهِمْ بِبَعْضِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ، فَهُمْ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ بِهِمْ مُصَدِّقُونَ، وَالَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ بِهِمْ مُكَذِّبُونَ كَافِرُونَ، فَهُمُ الْجَاحِدُونَ وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ وَنُبُوَّةَ أَنْبِيَائِهِ حَقَّ الْجَحُودِ، الْمُكَذِّبُونَ بِذَلِكَ حَقّ التَّكْذِيبِ. فَاحْذَرُوا أَنْ تَغْتَرُّوا بِهِمْ وَبِبِدْعَتِهِمْ، فَإِنَّا قَدْ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا مَهِينًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} "، فَإِنَّهُ يَعْنِي: "وَأَعْتَدْنَا" لِمَنْ جَحَدَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ جُحُودَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفْتُ لَكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، أَمْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلِغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ أَجْنَاسِ الْكُفَّارِ "عَذَابًا"، فِي الْآخِرَةِ"مَهِينًا"، يَعْنِي: يُهِينُ مَنْ عُذِّبَ بِهِ بِخُلُودِهِ فِيهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلٍ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مَهِينًا} "، أُولَئِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. آمَنَتِ الْيَهُودُ بِالتَّوْرَاةِ وَمُوسَى، وَكَفَرُوا بِالْإِنْجِيلِ وَعِيسَى. وَآمَنَتِ النَّصَارَى بِالْإِنْجِيلِ وَعِيسَى، وَكَفَرُوا بِالْقُرْآنِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَاتَّخَذُوا الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ، وَهْمًا بِدْعَتَانِ لَيْسَتَا مِنَ اللَّهِ، وَتَرَكُوا الْإِسْلَامَ وَهُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} "، يَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ لَيْسَ بِرَسُولٍ لِلَّهِ! وَتَقُولُ الْيَهُودُ: عِيسَى لَيْسَ بِرَسُولٍ لِلَّهِ! فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ رُسُلِهِ"وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ"، فَهَؤُلَاءِ يُؤْمِنُونَ بِبَعْضٍ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ: " {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} " إِلَى قَوْلِهِ: "بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا"، قَالَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. آمَنَتِ الْيَهُودُ بِعُزَيْرٍ وَكَفَرْتْ بِعِيسَى، وَآمَنَتِ النَّصَارَى بِعِيسَى وَكَفَرَتْ بِعُزَيْرٍ. وَكَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالنَّبِيِّ وَيَكْفُرُونَ بِالْآخَرِ"وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا"، قَالَ: دِينًا يَدِينُونَ بِهِ اللَّهَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَالَّذِينَ صَدَقُوا بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَأَقَرُّوا بِنُبُوَّةِ رُسُلِهِ أَجْمَعِينَ، وَصَدَّقُوهُمْ فِيمَا جَاءُوهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنْ شَرَائِعِ دِينِهِ"وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ"، يَقُولُ: وَلَمْ يُكَذِّبُوا بَعْضَهُمْ وَيُصَدِّقُوا بَعْضَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ أَقَرُّوا أَنَّ كُلَّ مَا جَاءُوا بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ حَقّ"أُولَئِكَ"، يَقُولُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَذِهِ صَفَّتْهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ"سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ"، يَقُولُ: سَوْفَ يُعْطِيهِمْ "أُجُورَهُمْ"، يَعْنِي: جَزَاءَهُمْ وَثَوَابَهُمْ عَلَى تَصْدِيقِهِمُ الرُّسُلَ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ وَشَرَائِعِ دِينِهِ، وَمَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ "وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا"، يَقُولُ: وَيَغْفِرُ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ خَلْقِهِ مَا سَلَفَ لَهُ مِنْ آثَامِهِ، فَيَسْتُرُ عَلَيْهِ بِعَفْوِهِ لَهُ عَنْهُ، وَتَرْكِهِ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ لِذُنُوبِ الْمُنِيبِينَ إِلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ غَفُورًا"رَحِيمًا"، يَعْنِي وَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ رَحِيمًا، بِتَفَضُّلِهِ عَلَيْهِمْ بِالْهِدَايَةِ إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ، وَتَوْفِيقِهِ إِيَّاهُمْ لِمَا فِيهِ خَلَاصُ رِقَابِهِمْ مِنَ النَّارِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: "يَسْأَلُكَ" يَا مُحَمَّدُ "أَهْلُ الْكِتَابِ"، يَعْنِي بِذَلِكَ: أَهْلَ التَّوْرَاةِ مِنَ الْيَهُودَ "أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ". وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي "الكِتَابِ" الَّذِي سَأَلَ الْيَهُودُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ.تَأْوِيلُهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَأَلُوهُ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ مَكْتُوبًا، كَمَا جَاءَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالتَّوْرَاةِ مَكْتُوبَةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} "، قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَآتِنَا كِتَابًا مَكْتُوبًا مِنَ السَّمَاءِ، كَمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى. حَدَّثَنِي الْحَارِثُُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعَّبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: جَاءَ أُنَاسٌ مَنَ الْيَهُودِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنْ مُوسَى جَاءَ بِالْأَلْوَاحِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَأْتِنَا بِالْأَلْوَاحِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حَتَّى نُصَدِّقَكَ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: " {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} "، إِلَى قَوْلِهِ: " {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} ". وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ سَأَلُوهُ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا، خَاصَّةً لَهُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} "، أَيْ كُتَّابًا، خَاصَّةً" {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} ". وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ سَأَلُوهُ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَى رِجَالٍ مِنْهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ كُتُبًا بِالْأَمْرِ بِتَصْدِيقِهِ وَاتِّبَاعِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ: " {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} "، وَذَلِكَ أَنْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: "لَنْ نُتَابِعَكَ عَلَى مَا تَدْعُونَا إِلَيْهِ، حَتَّى تَأْتِيَنَا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَى فُلَانٍ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَإِلَى فُلَانٍ بِكِتَابٍ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ"! قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: " {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} ". قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَهْلَ التَّوْرَاةِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ، آيَةً مُعْجِزَةً جَمِيعَ الْخَلْقِ عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهَا، شَاهِدَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصِّدْقِ، آمِرَةً لَهُمْ بِاتِّبَاعِهِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الَّذِي سَأَلُوهُ مِنْ ذَلِكَ كِتَابًا مَكْتُوبًا يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى جَمَاعَتِهِمْ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كُتُبًا إِلَى أَشْخَاصٍ بِأَعْيُنِهِمْ. بَلِ الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِظَاهِرِ التِّلَاوَةِ، أَنْ تَكُونَ مَسْأَلَتُهُمْ إِيَّاهُ ذَلِكَ كَانَتْ مَسْأَلَةً لِتَنْزِيلِ الْكِتَابِ الْوَاحِدِ إِلَى جَمَاعَتِهِمْ، لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَبَرِهِ عَنْهُمْ "الكِتَابَ" بِلَفْظِ الْوَاحِدِ بِقَوْلِهِ: "يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ"، وَلَمْ يَقِلْ"كُتُبًا". وَأَمَّا قَوْلُهُ: " {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} "، فَإِنَّهُ تَوْبِيخٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ سَائِلِي الْكِتَابِ الَّذِي سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنَزِّلَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ، فِي مَسْأَلَتِهِمْ إِيَّاهُ ذَلِكَ وَتَقْرِيعٌ مِنْهُ لَهُمْ. يَقُولُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ، لَا يَعْظُمَنَّ عَلَيْكَ مَسْأَلَتُهُمْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ مِنْ جَهْلِهِمْ بِاللَّهِ وَجَرَاءَتِهِمْ عَلَيْهِ وَاغْتِرَارِهِمْ بِحِلْمِهِ، لَوْ أَنْزَلْتُ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ الَّذِي سَأَلُوكَ أَنْ تُنَزِّلَهُ عَلَيْهِمْ، لَخَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ كَمَا خَالَفُوهُ بَعْدَ إِحْيَاءِ اللَّهِ أَوَائِلَهُمْ مَنْ صَعَقَتْهُمْ، فَعَبَدُوا الْعِجْلَ وَاتَّخَذُوهُ إِلَهًا يَعْبُدُونَهُ مَنْ دُونِ خَالِقِهِمْ وَبَارِئِهِمُ الَّذِي أَرَاهُمْ مَنْ قَدَّرَتْهُ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ مَا أَرَاهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَنْ يَعْدُوا أَنْ يَكُونُوا كَأَوَائِلِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ. ثُمَّ قَصَّ اللَّهُ مِنْ قِصَّتِهِمْ وَقِصَّةِ مُوسَى مَا قَصَّ، يَقُولُ اللَّهُ: " {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} "، يَعْنِي: فَقَدْ سَأَلَ أَسْلَافُ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ وَأَوَائِلُهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَعْظَمَ مِمَّا سَأَلُوكَ مِنْ تَنْزِيلِ كِتَابٍ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ، فَقَالُوا لَهُ: "أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً"، أَيْ: عِيَانًا نُعَايِنُهُ وَنَنْظُرُ إِلَيْهِ. وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى مَعْنَى "الجَهْرَةِ"، بِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الرِّوَايَةِ وَالشَّوَاهِدِ عَلَى صِحَّةٍ مَا قُلْنَا فِي مَعْنَاهُ فِيمَا مَضَى، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ، بِمَا:- حَدَّثَنِي بِهِ الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ هَارُونَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: إِنَّهُمْ إِذَا رَأَوْهُ فَقَدْ رَأَوْهُ، إِنَّمَا قَالُوا جَهْرَةً: "أَرِنَا اللَّهَ". قَالَ: هُوَ مُقَدَّمٌ وَمُؤَخَّرٌ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ: أَنَّ سُؤَالَهُمْ مُوسَى كَانَ جَهْرَةً. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} "، فَإِنَّهُ يَقُولُ: "فَصُعِقُوا""بِظُلْمِهِمْ" أَنْفُسِهِمْ. وَظُلْمُهُمْ أَنْفُسِهِمْ، كَانَ مَسْأَلَتَهُمْ مُوسَى أَنْ يُرِيَهُمْ رَبَّهُمْ جَهْرَةً، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَسْأَلَتَهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى: "الصَّاعِقَةِ"، فِيمَا مَضَى بِاخْتِلَافِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي تَأْوِيلِهَا، وَالدَّلِيلَ عَلَى أُولَى مَا قِيلَ فِيهَا بِالصَّوَابِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " {ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} "، فَإِنَّهُ يَعْنِي: ثُمَّ اتَّخَذَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَأَلُوا مُوسَى مَا سَأَلُوهُ مِنْ رُؤْيَةِ رَبِّهِمْ جَهْرَةً، بَعْدَ مَا أَحْيَاهُمُ اللَّهُ فَبَعَثَهُمْ مِنْ صَعْقَتِهِمُ الْعِجْلَ الَّذِي كَانَ السَّامِرِيُّ نَبَذَ فِيهِ مَا نَبَذَ مِنَ الْقَبْضَةِ الَّتِي قَبَضَهَا مِنْ أَثَرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَهًا يَعْبُدُونَهُ مَنْ دُونِ اللَّهِ. وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى ذِكْرِ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ، وَكَيْفَ كَانَ أَمْرُهُمْ وَأَمْرُهُ، فِيمَا مَضَى بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ. وَقَوْلُهُ: " {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} "، يَعْنِي: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَأَلُوا مُوسَى مَا سَأَلُوا، الْبَيِّنَاتُ مِنَ اللَّهِ، وَالدَّلَالَاتُ الْوَاضِحَاتُ بِأَنَّهُمْ لَنْ يَرَوُا اللَّهَ عِيَانًا جِهَارًا. وَإِنَّمَا عَنَى بِ "البَيِّنَاتِ": الْمُرَادُ بِهَا أَنَّهَا آيَاتٌ تُبَيِّنُ عَنْ أَنَّهُمْ لَنْ يَرَوُا اللَّهَ فِي أَيَّامِ حَيَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا جَهْرَةً. وَكَانَتْ تِلْكَ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ لَهُمْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ: إِصْعَاقُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عِنْدَ مَسْأَلَتِهِمْ مُوسَى أَنْ يُرِيَهُمْ رَبَّهُ جَهْرَةً، ثُمَّ إِحْيَاؤُهُ إِيَّاهُمْ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ، مَعَ سَائِرِ الْآيَاتِ الَّتِي أَرَاهُمُ اللَّهُ دَلَالَةً عَلَى ذَلِكَ. يَقُولُ اللَّهُ، مُقَبِّحًا إِلَيْهِمْ فِعْلَهُمْ ذَلِكَ، وَمُوَضِّحًا لِعِبَادِهِ جَهْلَهُمْ وَنَقْصَ عُقُولِهِمْ وَأَحْلَامِهِمْ: ثُمَّ أَقَرُّوا لِلْعِجْلِ بِأَنَّهُ لَهُمْ إِلَهٌ، وَهُمْ يَرَوْنَهُ عِيَانًا، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ جِهَارًا، بَعْدَ مَا أَرَاهُمْ رَبُّهُمْ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ مَا أَرَاهُمْ: أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ جَهْرَةً وَعِيَانًا فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا، فَعَكَفُوا عَلَى عِبَادَتِهِ مُصَدِّقِينَ بِأُلُوهَتِهِ!! وَقَوْلُهُ: "فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ"، يَقُولُ: فَعَفَوْنَا لِعَبَدَةِ الْعِجْلِ عَنْ عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ، وَلِلْمُصَدِّقِينَ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ إِلَهُهُمْ بَعْدَ الَّذِي أَرَاهُمُ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا أَرَاهُمْ عَنْ تَصْدِيقِهِمْ بِذَلِكَ، بِالتَّوْبَةِ الَّتِي تَابُوهَا إِلَى رَبِّهِمْ بِقَتْلِهِمْ أَنْفُسِهِمْ، وَصَبْرِهِمْ فِي ذَلِكَ عَلَى أَمْرِ رَبِّهِمْ" {وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا} "، يَقُولُ: وَآتَيْنَا مُوسَى حُجَّةً تُبَيِّنُ عَنْ صِدْقِهِ، وَحَقِيقَةِ نُبُوَّتِهِ، وَتِلْكَ الْحُجَّةُ هِيَ: الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ الَّتِي آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوَا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: " {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ} "، يَعْنِي: الْجَبَلَ، وَذَلِكَ لَمَّا امْتَنَعُوا مِنَ الْعَمَلِ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَقَبُولِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مُوسَى فِيهَا"بِمِيثَاقِهِمْ"، يَعْنِي: بِمَا أَعْطَوُا اللَّهَ الْمِيثَاقَ وَالْعَهْدَ: لَنَعْمَلَنَّ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ "وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا"، يَعْنِي"بَابَ حِطَّةٍ"، حِينَ أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا مِنْهُ سُجُودًا، فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ "وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ"، يَعْنِي بِقَوْلِهِ: "لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ"، لَا تَتَجَاوَزُوا فِي يَوْمَ السَّبْتَ مَا أُبِيحَ لَكُمْ إِلَى مَا لَمْ يُبَحْ لَكُمْ، كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} "، قَالَ: كُنَّا نُحَدِّثُ أَنَّهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. "وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوَا فِي السَّبْتِ"، أُمِرَ الْقَوْمُ أَنْ لَا يَأْكُلُوا الْحِيتَانَ يَوْمَ السَّبْتَ وَلَا يَعْرِضُوا لَهَا، وَأُحِلَّ لَهُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَمْصَارِ الْإِسْلَامِ: (لَا تَعْدُوَا فِي السَّبْتِ)، بِتَخْفِيفِ "العَيْنِ" مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: "عَدَوْتَ فِي الْأَمْرِ"، إِذَا تَجَاوَزَتَ الْحَقَّ فِيهِ، "أَعْدُو عَدْوًا وَعُدُوًّا وَعُدْوَانًا وَعَدَاءً". وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: (وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُّوا) بِتَسْكِينِ "العَيْنِ" وَتَشْدِيدِ "الدَّالِّ"، وَالْجَمْعِ بَيْنَ سَاكِنِينَ، بِمَعْنَى: تَعْتَدُوا، ثُمَّ تُدْغَمُ "التَّاءُ" فِي "الدَّالِ" فَتَصِيرُ"دَالًا" مُشَدِّدَةً مَضْمُومَةً، كَمَا قَرَأَ مَنْ قَرَأَ {أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي} [سُورَةُ يُونُسَ: 35]، بِتَسْكِينِ "الهَاءِ". وَقَوْلُهُ: " {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} "، يَعْنِي: عَهْدًا مُؤَكَّدًا شَدِيدًا، بِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ بِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَيَنْتَهُونَ عَمَّا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ، مِمَّا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِمَّا فِي التَّوْرَاةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى، السَّبَبَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ كَانُوا أُمِرُوا بِدُخُولِ الْبَابِ سُجَّدًا، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي ذَلِكَ وَخَبَرَهُمْ وَقِصَّتَهَمْ وَقِصَّةَ السَّبْتِ، وَمَا كَانَ اعْتِدَاؤُهُمْ فِيهِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَبِنَقْضِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفْتُ صِفَتَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ"مِيثَاقَهُمْ"، يَعْنِي: عُهُودَهُمُ الَّتِي عَاهَدُوا اللَّهَ أَنْ يَعْمَلُوا بِمَا فِي التَّوْرَاةِ "وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ"، يَقُولُ: وَجُحُودِهِمْ"بِآيَاتِ اللَّهِ"، يَعْنِي: بِأَعْلَامِ اللَّهِ وَأَدِلَّتِهِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا عَلَيْهِمْ فِي صِدْقِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَحَقِيقَةِ مَا جَاءُوهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِهِ "وَقَتْلِهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ"، يَقُولُ: وَبِقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِنُبُوَّتِهِمْ"بِغَيْرِ حَقٍّ"، يَعْنِي: بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ مِنْهُمْ ذَلِكَ لِكَبِيرَةٍ أَتَوْهَا، وَلَا خَطِيئَةٍ اسْتَوْجَبُوا الْقَتْلَ عَلَيْهَا "وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ"، يَعْنِي: وَبِقَوْلِهِمْ" قُلُوبُنَا غُلْفٌ "، يَعْنِي: يَقُولُونَ: عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ وَأَغْطِيَةٌ عَمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ، فَلَا نَفْقَهُ مَا تَقُولُ وَلَا نَعْقِلُهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى: "الْغُلْفَ"، وَذَكَرْنَا مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الرِّوَايَةِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ. " {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} "، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: كَذَبُوا فِي قَوْلِهِمْ: " قُلُوبُنَا غُلْفٌ "، مَا هِيَ بِغُلْفٍ، وَلَا عَلَيْهَا أَغْطِيَةٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ جَعَلَ عَلَيْهَا طَابِعًا بِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا صِفَةَ "الطَّبْعِ عَلَى الْقَلْبِ"، فِيمَا مَضَى، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. " {فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} "، يَقُولُ: فَلَا يُؤْمِنُ-هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفَ اللَّهُ صِفَتَهُمْ، لِطَبْعِهِ عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَيُصَدِّقُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ- إِلَّا إِيمَانًا قَلِيلًا يَعْنِي: تَصْدِيقًا قَلِيلًا وَإِنَّمَا صَارَ"قَلِيلًا"، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَصْدُقُوا عَلَى مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَلَكِنْ صَدَّقُوا بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَبِبَعْضِ الْكُتُبِ، وَكَذَّبُوا بِبَعْضٍ. فَكَانَ تَصْدِيقُهُمْ بِمَا صَدَّقُوا بِهِ قَلِيلًا لِأَنَّهُمْ وَإِنْ صَدَّقُوا بِهِ مِنْ وَجْهٍ، فَهُمْ بِهِ مُكَذِّبُونَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهِ تَكْذِيبِهِمْ مَنْ كَذَّبُوا بِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا جَاءُوا بِهِ مَنْ كَتُبِ اللَّهِ، وَرُسُلُ اللَّهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَبِذَلِكَ أَمَرَ كُلُّ نَبِيٍّ أُمَّتَهُ. وَكَذَلِكَ كُتُبُ اللَّهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيُحَقِّقُ بَعْضٌ بَعْضًا. فَالْمُكَذِّبُ بِبَعْضِهَا مُكَذِّبٌ بِجَمِيعِهَا، مِنْ جِهَةِ جُحُودِهِ مَا صَدَّقَهُ الْكِتَابُ الَّذِي يُقِرُّ بِصِحَّتِهِ. فَلِذَلِكَ صَارَ إِيمَانُهُمْ بِمَا آمَنُوا مِنْ ذَلِكَ قَلِيلًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: " {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} "، يَقُولُ: فَبِنَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ"وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ"، أَيْ لَا نَفْقَهُ، "بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ"، وَلَعَنَهُمْ حِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: " {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} "مَعْنَاهَا، الْآيَةَ، هَلْ هُوَ مُوَاصِلٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْكَلَامِ، أَوْ هُوَ مُنْفَصِلٌ مِنْهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مُنْفَصِلٌ مِمَّا قَبْلَهُ، وَمَعْنَاهُ: فَبِنَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ، وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَقَتْلِهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ، طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ وَلَعَنَهُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} "، لَمَّا تَرَكَ الْقَوْمُ أَمْرَ اللَّهِ، وَقَتَلُوا رُسُلَهُ، وَكَفَرُوا بِآيَاتِهِ، وَنَقَضُوا الْمِيثَاقَ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْهِمْ، طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ وَلَعْنَهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ مُوَاصِلٌ لِمَا قَبْلَهُ. قَالُوا: وَمَعْنَى الْكَلَامِ: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ فَبِنَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ، وَكَفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَبِقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَبِكَذَا وَكَذَا أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ. قَالُوا: فَتَبِعَ الْكَلَامُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَمَعْنَاهُ: مَرْدُودٌ إِلَى أَوَّلِهِ. وَتَفْسِيرُ"ظُلْمِهِمُ"، الَّذِي أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ مِنْ أَجْلِهِ، بِمَا فَسَّرَ بِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، مِنْ نَقْضِهِمُ الْمِيثَاقَ، وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ، وَسَائِرِ مَا بَيَّنَ مِنْ أَمْرِهِمُ الَّذِي ظَلَمُوا فِيهِ أَنْفُسَهُمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: " {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} " وَمَا بَعْدَهُ، مُنْفَصِلٌ مَعْنَاهُ مِنْ مَعْنَى مَا قَبْلَهُ، وَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ، وَكَفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَبِكَذَا وَبِكَذَا، لَعَنَّاهُمْ وَغَضِبْنَا عَلَيْهِمْ فَتَرَكَ ذِكْرَ"لَعَنَّاهُمْ "، لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: " {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} "، عَلَى مَعْنَى ذَلِكَ. إِذْ كَانَ مَنْ طُبُعَ عَلَى قَلْبِهِ، فَقَدْ لُعِنَ وَسُخِطَ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ الَّذِينَ أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ، إِنَّمَا كَانُوا عَلَى عَهْدِ مُوسَى وَالَّذِينَ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ، وَالَّذِينَ رَمَوْامَرْيَمَبِالْبُهْتَانِ الْعَظِيمِ، وَقَالُوا: "قَتَلْنَا الْمَسِيحَ"، كَانُوا بَعْدَ مُوسَى بِدَهْرٍ طَوِيلٍ. وَلَمْ يُدْرِكِ الَّذِينَ رَمَوْامَرْيَمَبِالْبُهْتَانِ الْعَظِيمِ زَمَانَ مُوسَى، وَلَا مَنْ صُعِقَ مَنْ قَوْمِهِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِينَ أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ، لَمْ تَأْخُذْهُمْ عُقُوبَةً لِرَمْيِهِمْمَرْيَمَبِالْبُهْتَانِ الْعَظِيمِ، وَلَا لِقَوْلِهِمْ: " {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} ". وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَبَيِّنٌ أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ، غَيْرَ الَّذِينَ عُوقِبُوا بِالصَّاعِقَةِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، كَانَ بَيِّنًا انْفِصَالُ مَعْنَى قَوْلِهِ: "فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ"، مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: "فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَبِكُفْرِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ" {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} "، يَعْنِي: بِفِرْيَتِهِمْ عَلَيْهَا، وَرَمْيِهِمْ إِيَّاهَا بِالزِّنَا، وَهُوَ "البُهْتَانُ الْعَظِيمُ"، لِأَنَّهُمْ رَمَوْهَا بِذَلِكَ، وَهِيَ مِمَّا رَمَوْهَا بِهِ بِغَيْرٍ ثَبَتٍ وَلَا بِرِهَانِ بَرِيئَةٌ، فَبَهَتُوهَا بِالْبَاطِلِ مِنَ الْقَوْلِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} "، يَعْنِي: أَنَّهُمْ رَمَوْهَا بِالزِّنَا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلُهُ: " {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} "، حِينَ قَذَفُوهَا بِالزِّنَا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ فِي قَوْلِهِ: " {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} "، قَالَ: قَالُوا: "زَنَتْ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَبِقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلَنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ. ثُمَّ كَذَّبَهُمُ اللَّهُ فِي قِيلِهِمْ، فَقَالَ: " {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} "، يَعْنِي: وَمَا قَتَلُوا عِيسَى وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنَّ شُبِّهَ لَهُمْ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيصِفَةِ التَّشْبِيهِ الَّذِي شُبِّهَ لِلْيَهُودِ فِي أَمْرِ عِيسَى. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا أَحَاطَتِ الْيَهُودُ بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ، أَحَاطُوا بِهِمْ وَهُمْ لَا يُثْبِتُونَ مَعْرِفَةَ عِيسَى بِعَيْنِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ جَمِيعًا حُوِّلُوا فِي صُورَةِ عِيسَى، فَأَشْكَلَ عَلَى الَّذِينَ كَانُوا يُرِيدُونَ قَتْلَ عِيسَى، عِيسَى مِنْ غَيْرِهِ مِنْهُمْ، وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ بَعْضٌ مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ مَعَ عِيسَى، فَقَتَلُوهُ وَهُمْ يَحْسَبُونَهُ عِيسَى.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقَمْيُّ، عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ، عَنْ وَهَبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: أُتِيَ عِيسَى وَمَعَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ فِي بَيْتٍ، وَأَحَاطُوا بِهِمْ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِمْ صَوَّرَهُمُ اللَّهُ كُلَّهُمْ عَلَى صُورَةِ عِيسَى، فَقَالُوا لَهُمْ: سَحَرْتُمُونَا! لَتُبْرِزُنَّ لَنَا عِيسَى أَوْ لَنَقْتُلَنَّكُمْ جَمِيعًا! فَقَالَ عِيسَى لِأَصْحَابِهِ: مَنْ يَشْتَرِي نَفْسَهُ مِنْكُمُ الْيَوْمَ بِالْجَنَّةِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: أَنَا! فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: أَنَا عِيسَى وَقَدْ صَوَّرَهُ اللَّهُ عَلَى صُورَةِ عِيسَى، فَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ. فَمِنْ ثَمَّ شُبِّهَ لَهُمْ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ قَتَلُوا عِيسَى، وَظَنَّتِ النَّصَارَى مَثَلَ ذَلِكَ أَنَّهُ عِيسَى، وَرَفْعَ اللَّهُ عِيسَى مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ وَهَبِ بْنِ مُنَبِّهٍ غَيْرُ هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ مَا:- حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنِ مَعْقِلٍ: أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبًا يَقُولُ: إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ خَارِجٌ مِنَ الدُّنْيَا، جَزَعَ مِنَ الْمَوْتِ وَشَقَ عَلَيْهِ، فَدَعَا الْحَوَارِيِّينَ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا، فَقَالَ: احْضُرُونِي اللَّيْلَةَ، فَإِنَّ لِي إِلَيْكُمْ حَاجَةً. فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ مِنَ اللَّيْلِ، عَشَّاهُمْ وَقَامَ يَخْدِمُهُمْ. فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الطَّعَامِ أَخَذَ يَغْسِلُ أَيْدِيَهُمْ وَيُوَضِّئُهُمْ بِيَدِهِ، وَيَمْسَحُ أَيْدِيهِمْ بِثِيَابِهِ، فَتَعَاظَمُوا ذَلِكَ وَتَكَارَهُوهُ، فَقَالَ: أَلَا مَنْ رَدَّ عَلَيَّ شَيْئًا اللَّيْلَةَ مِمَّا أَصْنَعُ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَا أَنَا مِنْهُ! فَأَقَرُّوهُ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: أَمَّا مَا صَنَعَتُ بِكُمُ اللَّيْلَةَ، مِمَّا خَدَمَتْكُمْ عَلَى الطَّعَامِ وَغَسَلَتْ أَيْدِيكُمْ بِيَدِي، فَلْيُكَنْ لَكُمْ بِي أُسْوَةٌ، فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَ أَنِّي خَيْرُكُمْ، فَلَا يَتَعَظَّمُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلْيَبْذُلْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْسَهَ، كَمَا بَذَلَتُ نَفْسِي لَكُمْ. وَأَمَّا حَاجَتِي الَّتِي اسْتَعَنْتُكُمْ عَلَيْهَا، فَتَدْعُونَ لِيَ اللَّهَ وَتَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ: أَنْ يُؤَخِّرَ أَجْلِي. فَلَمَّا نَصَبُوا أَنْفُسَهُمْ لِلدُّعَاءِ وَأَرَادُوا أَنْ يَجْتَهِدُوا، أَخَذَهُمُ النَّوْمُ حَتَّى لَمْ يَسْتَطِيعُوا دُعَاءً. فَجَعَلَ يُوقِظُهُمْ وَيَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا تَصْبِرُونَ لِي لَيْلَةً وَاحِدَةً تُعِينُونِي فِيهَا! قَالُوا: وَاللَّهُ مَا نَدْرِي مَا لَنَا! لَقَدْ كُنَّا نُسْمِرُ فَنُكْثِرُ السَّمَرَ، وَمَا نُطِيقُ اللَّيْلَةَ سَمَرًا، وَمَا نُرِيدُ دُعَاءً إِلَّا حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ! فَقَالَ: يُذْهَبُ بِالرَّاعِي وَتَتَفَرَّقُ الْغَنَمُ! وَجَعَلَ يَأْتِي بِكَلَامٍ نَحْوَ هَذَا يَنْعَى بِهِ نَفْسَهُ. ثُمَّ قَالَ: الْحَقُّ، لَيَكْفُرُنَّ بِي أَحَدُكُمْ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَلَيَبِيعَنِّي أَحَدُكُمْ بِدَرَاهِمَ يَسِيرَةٍ، وَلِيَأْكُلْنَ ثُمْنِي! فَخَرَجُوا فَتَفَرَّقُوا، وَكَانَتْ الْيَهُودُ تَطْلُبُهُ، فَأَخَذُوا شَمْعُونَ أَحَدَ الْحَوَارِيِّينَ، فَقَالُوا: هَذَا مِنْ أَصْحَابِهِ! فَجَحَدَ وَقَالَ: مَا أَنَا بِصَاحِبِهِ! فَتَرَكُوهُ، ثُمَّ أَخَذَهُ آخَرُونَ فَجَحَدَ كَذَلِكَ. ثُمَّ سَمِعَ صَوْتَ دِيكٍ فَبَكَى وَأَحْزَنَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى أَحَدُ الْحَوَارِيِّينَ إِلَى الْيَهُودِ فَقَالَ: مَا تَجْعَلُونَ لِي إِنْ دَلَلْتُكُمْ عَلَى الْمَسِيحِ؟ فَجَعَلُوا لَهُ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، فَأَخَذَهَا وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ. وَكَانَ شُبِّهَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَأَخَذُوهُ فَاسْتَوْثَقُوا مِنْهُ، وَرَبَطُوهُ بِالْحَبْلِ، فَجَعَلُوا يَقُودُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ: أَنْتَ كُنْتَ تُحْيِ الْمَوْتَى، وَتَنْتَهِرُ الشَّيْطَانَ، وَتُبْرِئُ الْمَجْنُونَ، أَفَلَا تُنَجِّي نَفْسَكَ مِنْ هَذَا الْحَبْلِ؟ ! وَيَبْصُقُونَ عَلَيْهِ، وَيُلْقُونَ عَلَيْهِ الشَّوْكَ، حَتَّى أَتَوْا بِهِ الْخَشَبَةَ الَّتِي أَرَادُوا أَنْ يَصْلُبُوهُ عَلَيْهَا، فَرَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَصَلَبُوا مَا شُبِّهَ لَهُمْ، فَمَكَثَ سَبْعًا. ثُمَّ إِنَّ أُمَّهُ وَالْمَرْأَةَ الَّتِي كَانَ يُدَاوِيهَا عِيسَى فَأَبْرَأَهَا اللَّهُ مِنَ الْجُنُونِ، جَاءَتَا تَبْكِيَانِ حَيْثُ الْمَصْلُوبِ، فَجَاءَهُمَا عِيسَى فَقَالَ: عَلَامَ تَبْكِيَانِ؟ قَالَتَا: عَلَيْكَ! فَقَالَ: إِنِّي قَدْ رَفَعَنِي اللَّهُ إِلَيْهِ، وَلَمْ يُصِبْنِي إِلَّا خَيْرٌ، وَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ شُبِّهَ لَهُمْ، فَأْمُرَا الْحَوَارِيِّينَ أَنْ يَلْقَوْنِي إِلَى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا. فَلَقُوهُ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ أَحَدَ عَشَرَ. وَفَقَدَ الَّذِي كَانَ بَاعَهُ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْيَهُودَ، فَسَأَلَ عَنْهُ أَصْحَابَهُ، فَقَالُوا: إِنَّهُ نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ، فَاخْتَنَقَ وَقَتَلَ نَفْسَهُ. فَقَالَ: لَوْ تَابَ لَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ! ثُمَّ سَأَلَهُمْ عَنْ غُلَامٍ يَتْبَعُهُمْ يُقَالُ لَهُ: يُحَنَّى فَقَالَ: هُوَ مَعَكُمْ، فَانْطَلِقُوا، فَإِنَّهُ سَيُصْبِحُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ يُحَدِّثُ بِلُغَةِ قَوْمٍ، فَلْيُنْذِرْهُمْ وَلْيَدْعُهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ سَأَلَ عِيسَى مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ أَنْ يُلْقَى عَلَى بَعْضِهِمْ شَبَهَهُ، فَانْتَدَبَ لِذَلِكَ رَجُلٌ، فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُهُ، فَقُتِلَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، وَرُفِعَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} " إِلَى قَوْلِهِ: "وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا"، أُولَئِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ الْيَهُودُ ائْتَمَرُوا بِقَتْلِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ رَسُولِ اللَّهِ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ. وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَيُّكُمْ يُقْذَفُ عَلَيْهِ شَبَهِي، فَإِنَّهُ مَقْتُولٌ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: أَنَا، يَا نَبِيَّ اللَّهِ! فَقُتِلَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، وَمَنَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَرَفَعَهُ إِلَيْهِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: " {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} "، قَالَ: أُلْقِيَ شَبَهُهُ عَلَى رَجُلٍ مَنَّ الْحَوَارِيِّينَ فَقُتِلَ. وَكَانَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَرَضَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ أُلْقِيَ شَبَهِي عَلَيْهِ، وَلَهُ الْجَنَّةُ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: عَلَيَّ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَصَرُوا عِيسَى وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْحَوَارِيِّينَ فِي بَيْتٍ، فَقَالَ عِيسَى لِأَصْحَابِهِ: مَنْ يَأْخُذُ صُورَتِي فَيُقْتَلُ وَلَهُ الْجَنَّةُ؟ فَأَخَذَهَا رَجُلٌ مِنْهُمْ، وَصُعِدَ بِعِيسَى إِلَى السَّمَاءِ. فَلَمَّا خَرَجَ الْحَوَارِيُّونَ أَبْصَرُوهُمْ تِسْعَةَ عَشَرَ، فَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ صُعِدَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَجَعَلُوا يَعُدُّونَ الْقَوْمَ فَيَجِدُونَهُمْ يَنْقُصُونَ رَجُلًا مِنَ الْعِدَةِ، وَيَرَوْنَ صُورَةَ عِيسَى فِيهِمْ، فَشَكُّوا فِيهِ. وَعَلَى ذَلِكَ قَتَلُوا الرَّجُلَ وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ عِيسَى وَصَلَبُوهُ. فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: " {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} "، إِلَى قَوْلِهِ: " {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} ". حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ: أَنْ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَالَ: أَيُّكُمْ يَلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَلُ مَكَانِي؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: أَنَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُهُ فَقَتَلُوهُ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ: " {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} ". حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَ اسْمَ مَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي بَعَثَ إِلَى عِيسَى لِيَقْتُلَهُ، رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ دَاوُدُ. فَلَمَّا أَجْمَعُوا لِذَلِكَ مِنْهُ، لَمْ يَفْظَعْ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ بِالْمَوْتِ فِيمَا ذُكِرَ لِي فَظَعَهُ، وَلَمْ يَجْزَعْ مِنْهُ جَزَعَهُ، وَلَمْ يَدْعُ اللَّهَ فِي صَرْفِهِ عَنْهُ دُعَاءَهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ، فِيمَا يَزْعُمُونَ: "اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ صَارِفًا هَذِهِ الْكَأْسَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ فَاصْرِفْهَا عَنِّي!"، وَحَتَّى إِنَّ جِلْدَهُ مِنْ كَرْبِ ذَلِكَ لِيَتَفَصَّدُ دَمًا. فَدَخَلَ الْمُدْخَلَ الَّذِي أَجْمَعُوا أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِ فِيهِ لِيَقْتُلُوهُ هُوَ وَأَصْحَابَهُ، وَهُمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ بِعِيسَى. فَلَمَّا أَيْقَنَ أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ عَلَيْهِ، قَالَ لِأَصْحَابِهِ مِنْ الْحَوَارِيِّينَ وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا فُطْرُسُ، وَيَعْقُوبُ بْنُ زبدِي، وَيَحْنَسُ أَخُو يَعْقُوبَ، وأندراييس، وفيلبس، وأبرثلما، وَمَتَّى، وتوماس، وَيَعْقُوبُ بْنُ حلفيا، وتداوسيس، وقنانيا، وَيُودِسُ زَكَرِيَّا يَوُطَّا. قَالَ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ سَلَمَةُ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ فِيهِمْ، فِيمَا ذُكِرَ لِي، رَجُلٌ اسْمُهُ سَرْجَسُ، فَكَانُوا ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا سِوَى عِيسَى، جَحَدَتْهُ النَّصَارَى، وَذَلِكَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي شُبِّهَ لِلْيَهُودِ مَكَانَ عِيسَى. قَالَ: فَلَا أَدْرِي مَا هُوَ؟ مِنْ هَؤُلَاءِ الِاثْنَيْ عَشْرَ، أَمْ كَانَ ثَالِثَ عَشَرٍ، فَجَحَدُوهُ حِينَ أَقَرُّوا لِلْيَهُودِ بِصَلْبِ عِيسَى، وَكَفَرُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخَبَرِ عَنْهُ. فَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَإِنَّهُمْ دَخَلُوا الْمُدْخَلَ حِينَ دَخَلُوا وَهُمْ بِعِيسَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَإِنْ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ، فَإِنَّهُمْ دَخَلُوا الْمُدْخَلَ حِينَ دَخَلُوا وَهُمْ بِعِيسَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ كَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ: أَنْ عِيسَى حِينَ جَاءَهُ مِنَ اللَّهِ: "إِنِّي رَافِعُكَ إِلَيَّ" قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ، أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ، عَلَى أَنْ يُشَبَّهَ لِلْقَوْمِ فِي صُورَتِي فَيَقْتُلُوهُ مَكَانِي؟ فَقَالَ سَرْجَسُ: أَنَا، يَا رُوحَ اللَّهِ! قَالَ: فَاجْلِسْ فِي مَجْلِسِي. فَجَلَسَ فِيهِ، وَرُفِعَ عِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ. فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَأَخَذُوهُ فَصَلَبُوهُ، فَكَانَ هُوَ الَّذِي صَلَبُوهُ وَشُبِّهَ لَهُمْ بِهِ. وَكَانَتْ عِدَّتُهُمْ حِينَ دَخَلُوا مَعَ عِيسَى مَعْلُومَةً، قَدْ رَأَوْهُمْ وَأَحْصَوْا عِدَّتَهُمْ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ لِيَأْخُذُوهُ، وَجَدُوا عِيسَى فِيمَا يُرَوْنَ وَأَصْحَابَهُ، وَفَقَدُوا رَجُلًا مِنَ الْعِدَّةِ، فَهُوَ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَكَانُوا لَا يَعْرِفُونَ عِيسَى، حَتَّى جَعَلُوا لِيُودِسَ زَكَرِيَّا يَوُطَا ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا عَلَى أَنْ يَدُلَّهُمْ عَلَيْهِ وَيُعَرِّفَهُمْ إِيَّاهُ، فَقَالَ لَهُمْ: إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَيْهِ، فَإِنِّي سَأُقَبِّلُهُ، وَهُوَ الَّذِي أُقَبِّلُ، فَخُذُوهُ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ وَقَدْ رُفِعَ عِيسَى، رَأَى سَرْجَسَ فِي صُورَةِ عِيسَى، فِلْمْ يُشَكِّكْ أَنَّهُ هُوَ عِيسَى، فَأَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ، فَأَخَذُوهُ فَصَلَبُوهُ. ثُمَّ إِنَّ يُودِسَ زَكَرِيَّا يَوُطَا نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ، فَاخْتَنَقَ بِحَبْلٍ حَتَّى قَتَلَ نَفْسِهِ. وَهُوَ مَلْعُونٌ فِي النَّصَارَى، وَقَدْ كَانَ أَحَدَ الْمَعْدُودِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَبَعْضُ النَّصَارَى يَزْعُمُ أَنَّ يُودِسَ زَكَرِيَّا يَوُطَا هُوَ الَّذِي شُبِّهَ لَهُمْ، فَصَلَبُوهُ وَهُوَ يَقُولُ: "إِنِّي لَسْتُ بِصَاحِبِكُمْ! أَنَا الَّذِي دَلَلْتُكُمْ عَلَيْهِ"! وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيَّ ذَلِكَ كَانَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: بَلَغَنَا أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَيُّكُمْ يَنْتَدِبُ فَيُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَلُ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: أَنَا، يَا نَبِيَّ اللَّهِ. فَأُلْقِي عَلَيْهِ شَبَهَهُ فَقُتِلَ، وَرَفَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ إِلَيْهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: "شُبِّهَ لَهُمْ"، قَالَ: صَلَبُوا رَجُلًا غَيْرَ عِيسَى، يَحْسَبُونَهُ إِيَّاهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: "وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ"، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: صَلَبُوا رَجُلًا شَبَّهُوهُ بِعِيسَى، يَحْسَبُونَهُ إِيَّاهُ، وَرَفَعَ اللَّهُ إِلَيْهِ عِيسَى حَيًّا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ، أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: مِنْ أَنَّ شَبَهَ عِيسَى أُلْقِيَ عَلَى جَمِيعِ مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ مَعَ عِيسَى حِينَ أُحِيطَ بِهِ وَبِهِمْ، مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةِ عِيسَى إِيَّاهُمْ ذَلِكَ. وَلَكِنْ لِيُخْزِيَ اللَّهُ بِذَلِكَ الْيَهُودَ، وَيُنْقِذَ بِهِ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ مَكْرُوهِ مَا أَرَادُوا بِهِ مِنَ الْقَتْلِ، وَيَبْتَلِي بِهِ مَنْ أَرَادَ ابْتِلَاءَهُ مِنْ عِبَادِهِ فِي قِيلِهِ فِي عِيسَى، وَصُدِّقَ الْخَبَرُ عَنْ أَمْرِهِ. أَوْ: الْقَوْلُ الَّذِي رَوَاهُ عَبْدُ الصَّمَدِ عَنْهُ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى الْقَوْلَيْنِ بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ الَّذِينَ شَهِدُوا عِيسَى مِنْ الْحَوَارِيِّينَ، لَوْ كَانُوا فِي حَالِ مَا رُفِعَ عِيسَى وَأُلْقِيَ شُبَهُهُ عَلَى مَنْ أُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُهُ، كَانُوا قَدْ عَايَنُوا وَهُوَ يَرْفَعُ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَأَثْبَتُوا الَّذِي أُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَّهُهُ، وَعَايَنُوهُ مُتَحَوِّلًا فِي صُورَتِهِ بَعْدَ الَّذِي كَانَ بِهِ مِنْ صُورَةِ نَفْسِهِ بِمَحْضَرٍ مِنْهُمْ، لَمْ يُخْفَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ عِيسَى وَأَمْرِ مِنْ أُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُهُ عَلَيْهِمْ، مَعَ مُعَايَنَتِهِمْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَمْ يَلْتَبِسْ وَلَمْ يُشْكِلْ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ أَشْكَلَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ مِنْ الْيَهُودِ أَنَّ الْمَقْتُولَ وَالْمَصْلُوبَ كَانَ غَيْرَ عِيسَى، وَأَنْ عِيسَى رُفِعَ مِنْ بَيْنِهِمْ حَيًّا. وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَانَ أُشْكِلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ سَمِعُوا مِنْ عِيسَى مَقَالَتَهُ: "مَنْ يَلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي، وَيَكُونُ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ"، إِنْ كَانَ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَسَمِعُوا جَوَابَ مُجِيبِهِ مِنْهُمْ: "أَنَا"، وَعَايَنُوا تَحَوُّلَ الْمُجِيبِ فِي صُورَةِ عِيسَى بِعَقَبِ جَوَابِهِ؟ وَلَكِنَّ ذَلِكَ كَانَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى نَحْوِ مَا وَصَفَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عِيسَى فِي الْبَيْتِ الَّذِي رُفِعَ مِنْهُ مِنْ حِوَارِيِّهِ، حَوَّلَهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فِي صُورَةِ عِيسَى حِينَ أَرَادَ اللَّهُ رَفَعَهُ، فَلَمْ يُثْبِتُوا عِيسَى مَعْرِفَةً بِعَيْنِهِ مَنْ غَيْرِهِ لِتَشَابُهِ صُوَرِ جَمِيعِهِمْ، فَقَتَلَتِ الْيَهُودُ مِنْهُمْ مَنْ قَتَلَتْ وَهُمْ يُرَوْنَهُ بِصُورَةِ عِيسَى، وَيَحْسَبُونَهُ إِيَّاهُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِهِ عَارِفِينَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَظَنَّ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْبَيْتِ مَعَ عِيسَى مِثْلَ الَّذِي ظَنَّتِ الْيَهُودُ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُمَيِّزُوا شَخْصَ عِيسَى مِنْ شَخْصِ غَيْرِهِ، لِتَشَابُهِ شَخْصِهِ وَشَخْصِ غَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ. فَاتَّفَقُوا جَمِيعُهُمْ يَعْنِي: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَقْتُولَ كَانَ عِيسَى، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ، وَلَكِنَّهُ شُبِّهَ لَهُمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: " {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} ". أَوْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ كَانَ عَلَى نَحْوِ مَا رَوَى عَبْدُ الصَّمَدِ بْنِ مَعْقِلٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عِيسَى فِي الْبَيْتِ، تَفَرَّقُوا عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ الْيَهُودُ، وَبَقِيَ عِيسَى، وَأُلْقِي شَبَهُهُ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ فِي الْبَيْتِ بَعْدَ مَا تَفَرَّقَ الْقَوْمُ غَيْرَ عِيسَى، وَغَيْرَ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُهُ. وَرُفِعَ عِيسَى، فَقُتِلَ الَّذِي تَحَوَّلَ فِي صُورَةِ عِيسَى مِنْ أَصْحَابِهِ، وَظَنَّ أَصْحَابُهُ وَالْيَهُودُ أَنَّ الَّذِي قُتِلَ وَصُلِبَ هُوَ عِيسَى، لِمَا رَأَوْا مِنْ شَبَهِهِ بِهِ، وَخَفَاءِ أَمْرِ عِيسَى عَلَيْهِمْ. لِأَنَّ رَفْعَهُ وَتَحَوُّلَ الْمَقْتُولِ فِي صُورَتِهِ، كَانَ بَعْدَ تَفَرُّقِ أَصْحَابِهِ عَنْهُ، وَقَدْ كَانُوا سَمِعُوا عِيسَى مِنَ اللَّيْلِ يَنْعَى نَفْسَهُ، وَيَحْزَنُ لِمَا قَدْ ظَنَّ أَنَّهُ نَازِلٌ بِهِ مِنَ الْمَوْتِ، فَحَكَوْا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ حَقًّا، وَالْأَمْرُ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْحَقِيقَةِ بِخِلَافٍ مَا حَكَوْا. فَلَمْ يَسْتَحِقِ الَّذِينَ حَكَوْا ذَلِكَ مِنْ حَوَارِيِّيهِ أَنْ يَكُونُوا كِذْبَةً، إِذْ حَكَوْا مَا كَانَ حَقًّا عِنْدَهُمْ فِي الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْحَقِيقَةِ بِخِلَافِ الَّذِي حَكَوْا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: "وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ"، الْيَهُودَ الَّذِينَ أَحَاطُوا بِعِيسَى وَأَصْحَابِهِ حِينَ أَرَادُوا قَتْلَهُ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ عَرَفُوا عِدَّةَ مَنْ فِي الْبَيْتِ قَبْلَ دُخُولِهِمْ، فِيمَا ذُكِرَ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِمْ، فَقَدُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَالْتَبَسَ أَمْرُ عِيسَى عَلَيْهِمْ بِفَقْدِهِمْ وَاحِدًا مِنَ الْعِدَّةِ الَّتِي كَانُوا قَدْ أَحْصَوْهَا، وَقَتَلُوا مَنْ قَتَلُوا عَلَى شَكٍّ مِنْهُمْ فِي أَمْرِ عِيسَى. وَهَذَا التَّأْوِيلُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: لَمْ يُفَارِقِ الْحَوَارِيُّونَ عِيسَى حَتَّى رُفِعَ وَدَخَلَ عَلَيْهِمُ الْيَهُودُ. وَأَمَّا تَأْوِيلُهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: تَفَرَّقُوا عَنْهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ: "وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا"، فِي عِيسَى، هَلْ هُوَ الَّذِي بَقِيَ فِي الْبَيْتِ مِنْهُمْ بَعْدَ خُرُوجِ مَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ مِنَ الْعِدَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ، أَمْ لَا؟ "لَفِي شَكٍّ مِنْهُ"، يَعْنِي: مِنْ قَتْلِهِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَحْصَوْا مِنَ الْعِدَّةِ حِينَ دَخَلُوا الْبَيْتَ أَكْثَرَ مِمَّنْ خَرَجَ مِنْهُ وَمِنْ وُجِدَ فِيهِ، فَشَكُّوا فِي الَّذِي قَتَلُوهُ: هَلْ هُوَ عِيسَى أَمْ لَا؟ مِنْ أَجْلِ فَقْدِهِمْ مَنْ فَقَدُوا مِنَ الْعَدَدِ الَّذِي كَانُوا أَحْصَوْهُ، وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا: "قَتَلْنَا عِيسَى "، لِمُشَابِهَةِ الْمَقْتُولِ عِيسَى فِي الصُّورَةِ. يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: "مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ"، يَعْنِي: أَنَّهُمْ قَتَلُوا مَنْ قَتَلُوهُ عَلَى شَكِّ مِنْهُمْ فِيهِ وَاخْتِلَافٍ، هَلْ هُوَ عِيسَى أَمْ هُوَ غَيْرُهُ؟ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ بِمَنْ قَتَلُوهُ عَلِمٌ، مَنْ هُوَ؟ هُوَ عِيسَى أَمْ هُوَ غَيْرُهُ؟ "إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ"، يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ: مَا كَانَ لَهُمْ بِمَنْ قَتَلُوهُ مِنْ عِلْمٍ، وَلَكِنَّهُمُ اتَّبَعُوا ظَنَّهُمْ فَقَتَلُوهُ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ عِيسَى، وَأَنَّهُ الَّذِي يُرِيدُونَ قَتْلَهُ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ"وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا"، يَقُولُ: وَمَا قَتَلُوا-هَذَا الَّذِي اتَّبَعُوهُ فِي الْمَقْتُولِ الَّذِي قَتَلُوهُ وَهُمْ يَحْسَبُونَهُ عِيسَى- يَقِينًا أَنَّهُ عِيسَى وَلَا أَنَّهُ غَيْرُهُ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا مِنْهُ عَلَى ظَنٍّ وَشُبْهَةٍ. وَهَذَا كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ: "مَا قَتَلْتَ هَذَا الْأَمْرَ عِلْمًا، وَمَا قَتَلْتَهُ يَقِينًا"، إِذَا تَكَلَّمَ فِيهِ بِالظَّنِّ عَلَى غَيْرِ يَقِينِ عِلْمٍ. فَ "الهَاءُ" فِي قَوْلِهِ: "وَمَا قَتَلُوهُ"، عَائِدَةٌ عَلَى "الظَّنِّ". وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} "، قَالَ: يَعْنِي لَمْ يَقْتُلُوا ظَنَّهُمْ يَقِينًا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عَبِيدٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ فِي قَوْلِهِ: " {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} "، قَالَ: مَا قَتَلُوا ظَنَّهُمْ يَقِينًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي ذَلِكَ مَا:- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدِ بْنِ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} "، وَمَا قَتَلُوا أَمْرَهُ يَقِينًا أَنَّ الرَّجُلَ هُوَ عِيسَى، "بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَمَّا قَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: "بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ"، فَإِنَّهُ يَعْنِي: بَلْ رَفَعَ اللَّهِ الْمَسِيحَ إِلَيْهِ. يَقُولُ: لَمْ يَقْتُلُوهُ وَلَمْ يَصْلُبُوهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ رَفَعَهُ إِلَيْهِ فَطَهَّرَهُ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَقَدْ بَيَّنَا كَيْفَ كَانَ رَفْعُ اللَّهِ إِيَّاهُ إِلَيْهِ فِيمَا مَضَى، وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي ذَلِكَ، وَالصَّحِيحَ مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ بِالْأَدِلَّةِ الشَّاهِدَةِ عَلَى صِحَّتِهِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا"، فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَلَمْ يَزَلِ اللَّهُ مُنْتَقِمًا مِنْ أَعْدَائِهِ، كَانْتِقَامِهِ مِنَ الَّذِينَ أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ، وَكَلَعْنِهِ الَّذِينَ قَصَّ قِصَّتَهُمْ بِقَوْلِهِ: "فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكَفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ""حَكِيمًا"، يَقُولُ: ذَا حِكْمَةٍ فِي تَدْبِيرِهِ وَتَصْرِيفِهِ خَلَقَهُ فِي قَضَائِهِ. يَقُولُ: فَاحْذَرُوا أَيُّهَا السَّائِلُونَ مُحَمَّدًا أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْكُمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ، مِنْ حُلُولِ عُقُوبَتِي بِكُمْ، كَمَا حَلَّ بِأَوَائِلِكُمُ الَّذِينَ فَعَلُوا فِعْلَكُمْ، فِي تَكْذِيبِهِمْ رُسُلِي وَافْتِرَائِهِمْ عَلَى أَوْلِيَائِي، وَقَدْ:- حَدَّثَنَا أَبُو كَرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي سَارَةَ الرُّؤَاسِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: " {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} "، قَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُ كَذَلِكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: " {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} "، يَعْنِي: بِعِيسَى "قَبْلَ مَوْتِهِ"، يَعْنِي: قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى يُوَجِّهُ ذَلِكَ إِلَى أَنَّ جَمِيعَهُمْ يُصَدِّقُونَ بِهِ إِذَا نَزَلَ لِقَتْلِ الدَّجَّالِ، فَتَصِيرُ الْمِلَلَُ كُلُّهَا وَاحِدَةً، وَهِيَ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ الْحَنِيفِيَّةُ، دِينُ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} "، قَالَ: قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} "، قَالَ: قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: " {إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} "، قَالَ: ذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: "قَبْلَ مَوْتِهِ"، قَالَ: قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: " {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} "، قَالَ: قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى. وَاللَّهِ إِنَّهُ الْآنَ لَحَيٌّ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَكِنْ إِذَا نَزَلَ آمَنُوا بِهِ أَجْمَعُونَ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: " {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} "، يَقُولُ: قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} "، قَالَ: قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} "، قَالَ: قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، إِذَا نَزَلَ آمَنَتْ بِهِ الْأَدْيَانُ كُلُّهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ: " {إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} "، قَالَ عِيسَى، وَلَمْ يَمُتْ بَعْدُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْهُمْ عِنْدَ نُزُولِ عِيسَى إِلَّا آمَنَ بِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى. حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} "، قَالَ: إِذَا نَزَلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَقَتَلَ الدَّجَّالَ، لَمْ يَبْقَ يَهُودِيٌّ فِي الْأَرْضِ إِلَّا آمَنَ بِهِ. قَالَ: فَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ الْإِيمَانُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} "، يَعْنِي: أَنَّهُ سَيُدْرِكُ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حِينَ يَبْعَثُ عِيسَى، فَيُؤْمِنُونَ بِهِ، "وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا". حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: " {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}" قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَظُنُّهُ إِنَّمَا قَالَ: إِذَا خَرَجَ عِيسَى آمَنَتْ بِهِ الْيَهُودُ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَعْنِي بِذَلِكَ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِعِيسَى، قَبْلَ مَوْتِ الْكِتَابِيِّ. يُوَجِّهُ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا عَايَنَ عَلِمَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ لَمْ تَخْرُجْ نَفْسُهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ فِي دِينِهِ. [ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ]: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} "، قَالَ: لَا يَمُوتُ يَهُودِيٌّ حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ وَابْنُ حُمَيْدٍ قَالَا حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} "، قَالَ: لَا تَخْرُجُ نَفْسُهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى، وَإِنْ غَرِقَ، أَوْ تَرَدَّى مِنْ حَائِطٍ، أَوْ أَيَّ مِيتَةٍ كَانَتْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: " {إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} "، كُلُّ صَاحِبِ كِتَابٍ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ، بِعِيسَى، قَبْلَ مَوْتِهِ، مَوْتِ صَاحِبِ الْكِتَابِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: "لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ"، كُلُّ صَاحِبِ كُتَّابٍ، يُؤْمِنُ بِعِيسَى "قَبْلَ مَوْتِهِ"، قَبْلَ مَوْتِ صَاحِبِ الْكِتَابِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ، لَمْ تَخْرُجْ نَفْسُهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو تُمَيْلَةَ يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُُ بْنُ وَاقَدٍ، عَنْ يَزِيدِ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا يَمُوتُ الْيَهُودِيُّ حَتَّى يَشْهَدَ أَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَلَوْ عُجِّلَ عَلَيْهِ بِالسِّلَاحِ. حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ خُصَيْفِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} "، قَالَ: هِيَ فِي قِرَاءَةِ أَبِيٍّ: (قَبْلَ مَوْتِهِمْ)، لَيْسَ يَهُودِيٌّ يَمُوتُ أَبَدًا حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى. قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَرَأَيْتَ إِنْ خَرَّ مِنْ فَوْقِ بَيْتٍ؟ قَالَ: يَتَكَلَّمُ بِهِ فِي الْهَوِيِّ. فَقِيلَ: أَرَأَيْتَ إِنَّ ضَرِبَ عُنُقُ أَحَدٍ مِنْهُمْ؟ قَالَ: يُلَجْلِجُ بِهَا لِسَانُهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} "، قَالَ: لَا يَمُوتُ يَهُودِيٌّ حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. قَالَ: وَإِنْ ضُرِبَ بِالسَّيْفِ، يَتَكَلَّمُ بِهِ. قَالَ: وَإِنَّ هَوَى، يَتَكَلَّمُ بِهِ وَهُوَ يَهْوِي. وَحَدَّثَنِي ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي هَارُونَ الْغَنَوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: " {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} "، قَالَ: لَوْ أَنَّ يَهُودِيًّا وَقَعَ مِنْ فَوْقِ هَذَا الْبَيْتِ، لَمْ يَمُتْ حَتَّى يُؤْمِنَ بِهِ يَعْنِي: بِعِيسَى. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَوْلًى لِقُرَيْشٍ قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُولُ: لَوْ وَقَعَ يَهُودِيٌّ مِنْ فَوْقِ الْقَصْرِ، لَمْ يَبْلُغْ إِلَى الْأَرْضِ حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ الرُّمَّانِيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} "، قَالَ: وَإِنَّ وَقَعَ مِنْ فَوْقِ الْبَيْتِ، لَا يَمُوتُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} ". قَالَ: لَا يَمُوتُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى يُؤْمِنَ بِهِ، وَإِنْ غَرِقَ، أَوْ تَرَدَّى، أَوْ مَاتَ بِشَيْءٍ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: " {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} "، قَالَ: لَا تَخْرُجُ نَفْسُهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: " {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} "، قَالَ: لَا يَمُوتُ أَحَدُهُمْ حَتَّى يُؤْمِنَ بِهِ يَعْنِي: بِعِيسَى وَإِنْ خَرَّ مِنْ فَوْقِ بَيْتٍ، يُؤْمِنُ بِهِ وَهُوَ يَهْوِي. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِِ قَالَ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْيَهُودِ يَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلِ، عَنْ فُرَاتٍ الْقَزَّازِ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: " {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} "، قَالَ: لَا يَمُوتُ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ [يَعْنِي: الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ]. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ فُرَاتٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: " {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} "، قَالَ: لَا يَمُوتُ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: " {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} "، قَالَ: مَوْتُ الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} "، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ مِنْ يَهُودِيٍّ [يَمُوتُ] حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: كَيْفَ، وَالرَّجُلُ يَغْرَقُ، أَوْ يَحْتَرِقُ، أَوْ يَسْقُطُ عَلَيْهِ الْجِدَارَ، أَوْ يَأْكُلُهُ السَّبُعُ؟ فَقَالَ: لَا تَخْرُجُ رُوحُهُ مِنْ جَسَدِهِ حَتَّى يُقْذَفَ فِيهِ الْإِيمَانُ بِعِيسَى. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ، أَخْبَرَنَا عَبِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} "، قَالَ: لَا يَمُوتُ أَحَدٌ مِنْ الْيَهُودِ حَتَّى يَشْهَدَ أَنَّ عِيسَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْلَى، عَنْ جُوَيْبِرٍ فِي قَوْلِهِ: " {لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} "، قَالَ: فِي قِرَاءَةِ أَبِيٍّ: (قَبْلَ مَوْتِهِمْ). وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَبْلَ مَوْتِ الْكِتَابِيِّ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: قَالَ عِكْرِمَةُ: لَا يَمُوتُ النَّصْرَانِيُّ وَالْيَهُودِيُّ حَتَّى يُؤْمِنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي فِي قَوْلِهِ: " {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} ". قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصِّحَّةِ وَالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: تَأْوِيلُ ذَلِكَ: "وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى ". وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَقْوَالِ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ حَكَمَ لِكُلَّ مُؤْمِنٍ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُكْمِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، فِي الْمُوَارَثَةِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَإِلْحَاقُ صِغَارِ أَوْلَادِهِ بِحُكْمِهِ فِي الْمِلَّةِ. فَلَوْ كَانَ كُلُّ كِتَابِيٍّ يُؤْمِنُ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِهِ، لَوَجَبَ أَنْ لَا يَرِثَ الْكِتَابِيَّ إِذَا مَاتَ عَلَى مِلَّتِهِ إِلَّا أَوْلَادُهُ الصِّغَارُ، أَوِ الْبَالِغُونَ مِنْهُمْ مَنْ أَهَلَّ الْإِسْلَامِ، إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ أَوْ بَالِغٌ مُسْلِمٌ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ وَلَا بَالِغٌ مُسْلِمٌ، كَانَ مِيرَاثُهُ مَصْرُوفًا حَيْثُ يُصْرَفُ مَالُ الْمُسْلِمِ يَمُوتُ وَلَا وَارِثَ لَهُ، وَأَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَغَسْلِهِ وَتَقَْبيِرِهِ. لِأَنَّ مَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا بِعِيسَى، فَقَدْ مَاتَ مُؤْمِنًا بِمُحَمَّدٍ وَبِجَمِيعِ الرُّسُلِ. وَذَلِكَ أَنْ عِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، جَاءَ بِتَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ وَجَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَالْمُصَدِّقُ بِعِيسَى وَالْمُؤْمِنُ بِهِ، مُصَدِّقٌ بِمُحَمَّدٍ وَبِجَمِيعِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ. كَمَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ بِمُحَمَّدٍ، مُؤْمِنٌ بِعِيسَى وَبِجَمِيعِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ. فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا بِعِيسَى مَنْ كَانَ بِمُحَمَّدٍ مُكَذِّبًا. فَإِنَّ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ مَعْنَى إِيمَانَ الْيَهُودِيِّ بِعِيسَى الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: " {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} "، إِنَّمَا هُوَ إِقْرَارُهُ بِأَنَّهُ لِلَّهِ نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ، دُونَ تَصْدِيقِهِ بِجَمِيعِ مَا أَتَى بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَقَدْ ظَنَّ خَطَأً. وَذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إِلَى الْإِقْرَارِ بِنُبُوَّةِ نَبِيٍّ، مَنْ كَانَ لَهُ مُكَذِّبًا فِي بَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ وَحْيِ اللَّهِ وَتَنْزِيلِهِ. بَلْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إِلَّا الْإِقْرَارِ بِنُبُوَّةِ أَحَدٍ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ، لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ جَاءَتِ الْأُمَمَ بِتَصْدِيقِ جَمِيعِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ. فَالْمُكَذِّبُ بَعْضَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ فِيمَا أَتَى بِهِ أُمَّتَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، مُكَذِّبٌ جَمِيعَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ فِيمَا دَعَوْا إِلَيْهِ مِنْ دِينِ اللَّهِ عِبَادَ اللَّهِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَكَانَ الْجَمِيعُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مُجْمِعِينَ عَلَى أَنَّكُلَ كِتَابِيٍّ مَاتَ قَبْلَ إِقْرَارِهِ بِمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، حُكْمُهُ مَحْكُومٌ لَهُ بِحُكْمِ الْمِلَّةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَيَّامَ حَيَاتِهِ، غَيْرُ مَنْقُولٍ شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ صِغَارِهِمْ وَكِبَارِهِمْ بِمَوْتِهِ، عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ: " {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} "، إِنَّمَا مَعْنَاهُ: إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، وَأَنَّ ذَلِكَ فِي خَاصٍّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَعْنِيٌّ بِهِ أَهْلَ زَمَانٍ مِنْهُمْ دُونَ أَهْلِ كُلِّ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي كَانَتْ بَعْدَ عِيسَى، وَأَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ عِنْدَ نُزُولِهِ، كَالَّذِي:- حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ آدَمَ، «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ نَبِيَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ. وَإِنِّي أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ. وَإِنَّهُ نَازِلٌ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ مَرْبُوعُ الْخَلْقِ، إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، سَبْطُ الشِّعْرِ، كَأَنَّ رَأْسَهُ يَقْطُرُ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ، بَيْنَ مُمَصَّرَتَيْنِ، فَيَدُقُّ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيُفِيضُ الْمَالَ، وَيُقَاتِلُ النَّاسَ عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى يُهْلِكَ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا غَيْرَ الْإِسْلَامِ، وَيُهْلِكُ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ مَسِيحَ الضَّلَالَةِ الْكَذَّابَ الدَّجَّالَ، وَتَقَعُ الْأَمَنَةُ فِي الْأَرْضِ فِي زَمَانِهِ، حَتَّى تَرْتَعَ الْأَسْوَدُ مَعَ الْإِبِلِ، وَالنُّمُورُ مَعَ الْبَقَرِ، وَالذِّئَابُ مَعَ الْغَنَمِ، وَتَلْعَبَ الْغِلْمَانُ أَوِ: الصِّبْيَانُ بِالْحَيَّاتِ، لَا يَضُرُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. ثُمَّ يَلْبَثُ فِي الْأَرْضِ مَا شَاءَ اللَّهُ وَرُبَّمَا قَالَ: أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يُتَوَفَّى، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَيَدْفِنُونَهُ.» وَأَمَّا الَّذِي قَالَ: عَنَى بِقَوْلِهِ: " {لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} "، لَيُؤْمِنَنَّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَوْتِ الْكِتَابِيِّ- فَمِمَّا لَا وَجْهَ لَهُ مَفْهُومٌ، لِأَنَّهُ مَعَ فَسَادِهِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي دَلَلْنَا عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: "عَنَى بِهِ: لَيُؤْمِنَنَّ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِ الْكِتَابِيِّ" يَزِيدُهُ فَسَادًا أَنَّهُ لَمْ يَجْرِ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ ذَلِكَ ذِكْرٌ، فَيَجُوزُ صَرْفُ "الهَاءِ" الَّتِي فِي قَوْلِهِ: "لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ"، إِلَى أَنَّهَا مِنْ ذِكْرِهِ. وَإِنَّمَا قَوْلُهُ: "لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ"، فِي سِيَاقِ ذِكْرِ عِيسَى وَأُمِّهِ وَالْيَهُودِ. فَغَيْرُ جَائِزٍ صَرَفُ الْكَلَامِ عَمَّا هُوَ فِي سِيَاقِهِ إِلَى غَيْرِهِ، إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا مِنْ دَلَالَةِ ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ، أَوْ خَبَرٍ عَنِ الرَّسُولِ تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ. فَأَمَّا الدَّعَاوَى، فَلَا تَتَعَذَّرُ عَلَى أَحَدٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا: وَمَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا مَنْ لَيُؤْمِنَنَّ بِعِيسَى، قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى وَحَذَفَ"مَنْ" بَعْدَ"إِلَّا"، لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، فَاسْتَغْنَى بِدَلَالَتِهِ عَنْ إِظْهَارِهِ، كَسَائِرٍ مَا قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ أَمْثَالِهِ الَّتِي قَدْ أَتَيْنَا عَلَى الْبَيَانِ عَنْهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عِيسَى عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ"شَهِيدًا"، يَعْنِي: شَاهِدًا عَلَيْهِمْ بِتَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَهُ مِنْهُمْ، وَتَصْدِيقِ مَنْ صَدَّقَهُ مِنْهُمْ، فِيمَا أَتَاهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَبِإِبْلَاغِهِ رِسَالَةَ رَبِّهِ، كَالَّذِي:- حَدَّثَنَا الْقَاسِمُُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: " {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} "، أَنَّهُ قَدْ أَبْلَغَهُمْ مَا أُرْسِلَ بِهِ إِلَيْهِمْ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} "، يَقُولُ: يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ، وَأَقَرَّ بِالْعُبُودِيَّةِ عَلَى نَفْسِهِ.
|